التضحية بالمفهوم السقراطي

رزاق عبدالرزاق

– سقراط :   كما ترى، يا ضيفي العزيز لا زلت لحد الساعة أتكبد الخيبات الموجعة، وأتجرع قطرات الأسى. سيحاكمونني على أفكاري و منهجي في الحياة. يتهمونني بأني أنادي بتوحيد الآلهة، و يقولون عني أني مشاغب، رغم شيخوختي و تقدمي في السن، منهم من قال بأني أحرض الشباب على الثورة على أبائهم، أما بعض الأوغاد الوقحين فقد شبهوني بحشرة مضرة. كل ما أريد تعليمهم هو الاستماع إلى صوت الضمير، الذي أسميه الدايمونيون ((Daemonion، لأنني بعد تفكير عميق، أعتبره المسلك الوحيد إلى الفضيلة و فعل الخير. وأن الحكمة هي مفتاح السعادة. هذا الدايمونيون هو الذي ينبهنا عندما نريد فعل الشر.

– ابن الهيثم : هذا مصير كل مفكر نزيه وعميق الرؤية. فلكي يتطور الفكر الإنساني، لا بد من تضحيات، لن تموت ولو أعدموك، لأنك من المصلحين الخالدين. أحييك بحرارة على المجهودات الجبارة، التي قمت بها، من أجل انبعاث إنسان جديد يعرف كيف يفكر، وكيف يتصرف بعقلانية و حكمة.

 

كما أسلفنا الذكر، نتابع النقاش الفكري بالاعتماد على مقتطف آخر من مسرحية “ضيوف سقراط” التي ، كَتَبْتُها باللغة العربية الفصحى. والتي جاء في مقدمتها ما يلي :

“لست الأول أو الوحيد الذي كتب نصا مسرحيا حول مأساة/إعدام ، الفيلسوف الإغريقي الكبير سقراط. سبقني في هذا المنوال ڤولتير(Voltaire) ، و مادام دو سوڤينيه (Madame De Sévigné) ، وآخرون ينتمون إلى بلدان وثقافات أخرى، لكنني لم أحذو حذوهم جميعا، لأنني جازفت، و ذلك في سابقة جريئة من نوعها ، على الارتكاز على وحدة الزمن في بناء المسرحية. والتي جعلتها تبتعد عن المسرحيات الأخرى، شكلا، ومضمونا، ورؤية. فمن سبقوني في هذا الاختيار ركزوا على جلسات المحكمة، وعلى ما قيل بين الأطراف المتنازعة، كما استعان جلهم بما كتبه تلامذة سقراط وأصدقاؤه، الذين تابعوا أطوار المحاكمة، وعاينوا لحظات الإعدام الرهيبة، المتمثلة في شرب السم المستخرج من نبات الشوكران، أما أنا فركزت على الأيام الأربعة الأخيرة من حياته، أي الفترات ما قبل رحيله عن ما سماه بحكمة بليغة: “الإقامة الفانية”. ومن الضيوف البارزين الذين تخيلت مجيئهم عنده، لمؤازرته وللرفع من معنوياته، نجد في المقام الأول العالم العربي الكبير ابن الهيثم أبو البصريات. ثم يأتي من بعده نيكولا ماكياڤيلي ، مؤلف كتاب “الأمير”.

تدور المحاورة المسرحية حول مفهوم التضحية، ويعتبر سقراط نموذجها الأكبر على الإطلاق، نظرا لتأثيره على مُجْريات الأمور بالمنطقة التي عاش فيها ، وعلى الأجيال التي جاءت من بعده. ضحى هذا الفيلسوف المتميز بأعز ما كان يملك، ألا وهي الثروة الفكرية، والالتزام بالمبادئ السامية. كان سقراط مثاليا في سلوكه، مستقيما ووفيا ، كما أّدى كل واجباته بما فيها واجب الخدمة الوطنية، لكن طغاة ذاك الزمان تنكروا له . لم تعجبهم أفكاره التنويرية والتحررية فأعدموه.

ففي زمان الغطرسة الدينية تعَرّفَتْ أوربا على نموذجين آخرين للتضحية، على الطريقة السقراطية، رجل وامرأة، دخلا التاريخ من بابه الواسع، وليس من النوافذ كما يفعل الانتهازيون والوصوليون، وما أكثرهم في زمان الحثلاء والضفادع كالذي نعيشه. وبقيت قضيتهما وصمة عار على جبيني الكنيسة والفاتيكان. يتعلق الأمر ب جان دارك و جاليليو، كلاهما واجه تُهَمَ الأرتدكسيين المسيحيين المتزمتين ، وكان جزاؤهما هو: الموت حرقا بتهمة  الهرطقة بالنسبة للمرأة الفرنسية، والنفي بالنسبة للعالم الفلكي الايطالي ، الذي أقر بفضل حدسه العلمي أن الأرض كروية الشكل و تدور حول نفسها. أعطوه مهلة لكي يغير رأيه، لأنهم اعتبروه كافرا، لكن العالم التزم بحقيقة ما أكتشف، فتم نفيه في منطقة تقرب من فلورنسا ، ظل مسجونا  فيها حتى وفاته، وكانت جريمة لا تغتفر. فمند عصر جاليليو بدأ الإلحاد ينتشر في أوربا المتدينة، لأن الخارجين من الديانة المسيحية بدؤوا يتساءلون، كيف يعقل أن تنزل ديانة سماوية، ولا توصي بكروية الأرض.

ما كان للديمقراطية أن تزدهر في أوربا، لولا الفكر الإغريقي القديم، ولولا دور فلاسفته المرموقين كسقراط وأرسطو وأفلاطون الذي كان من أنجب تلامذته. أفلاطون هذا اشتهر بمؤلفه “الجمهورية”، الذي دُرِسَ في الجامعات الأوروبية بشكل مستفيض. أما هيرودوت فهو مؤسس علم التاريخ، و أبقراط (Hippocrate) يعرفه كل أطباء العالم لأنهم يحلفون بقسمه الشهير، وفيما يخص عالم الرياضيات إقليدس فلا زالت قواعده الحسابية حاضرة رغم مرور السنين، فكل تلاميذ الشعبة الرياضية يحفظونها عن ظهر قلب. هناك أيضا أشخاص جاؤوا إلى اليونان لطلب العلم، فأصبحوا من أشهر العلماء، ك أرخميدس(Archimède).

أما فيما يخص العالَم العربي، فيجب التنويه بالكاتب اللبناني سليمان البستاني، الذي قام بتعريب الإلياذة، للشاعر الإغريقي هوميروس. البستاني هذا كان يتقن أربع عشر لغة، من بينها الإغريقية. ظل اسمه مرتبطا بعمل الترجمة الجبار الذي قام به. وبلا شك أن الكاتب المترجم ضحى بأشياء كثيرة للقيام بعمله، لأن الإلياذة ملحمة ضخمة ، ليست كنشيد “يا إخوتي جاء المطر” آو نُصَيِص أدبي في سبعة سطور، ك ”أكلة البطاطس” الذي طََعّّّّم بها بوكماخ كتابه “اقرأ” .

بلغت الحضارة الهيلينية أوج عظمتها و تألقها خلال القرنين الخامس والرابع قبل ميلاد المسيح . واليونانيون القدامى هم من الأوائل من أعطوا لمفهوم الديمقراطيّة معنى بفضل اجتهادات مفكريهم. فلما أمسك الرومان بزمام الحكم، في فترات الردة والانقسام، التي جاءت كنتيجة حتمية لإعدام سقراط ، ولتضعضع الأوضاع في القرن الثاني ما قبل الميلاد. قاموا بنشر الميراث العلمي والفني والمعماري على باقي الإمبراطورية. فموت سقراط خلخل المفاهيم ، وزعزع الأوضاع في أثينا، لأن هذا الفيلسوف ليس كباقي الفلاسفة ، كان من أطيب الأيونيين، وكانت أثينا تفتخر به وتعتبره من أجود ما أنجبت في عصر الأنوار الإغريقي . لكن الحسد والغيرة دفعت بالسفسطائيين لاضطهاده، شر اضطهاد ، وكان هذا التصدي الشرس هو الدافع وراء كتابة أفلاطون لجمهوريته ، التي تتجلى من خلال أجزائها العشرة  بعض أفكار سقراط ، كتلك التي تتعلق بالعالم المثالي والدولة الفاضلة. ففي هذا المؤلف يرى أفلاطون أن الفلاسفة أحق لكرسي الحكم ، ومؤهلين لتحمل المسؤولية لأنهم، في نظره، هم الأقرب من اكتشاف الحقائق، ولهم من سعة البصر وعمق التبصر، ما هو كاف لإنجاح المهام. وما صار يعرف ب “كهف أفلاطون” يعطي البرهان على الجدلية الفكرية بين عالم المثل وعالم الماديات.

لعبة القدر أدت بالمفكر الكبير إلى الفاجعة، فلو كان سقراط يعطي الأسبقية لمكونات العالم الثاني (عالم الماديات) لما حوكِمَ و أعدِمَ ، لكن إيمانه الراسخ باستقامة أفكاره وبعدلها ، حال دون ذلك ، وكان ما كان، ليتحول بعد ذلك إلى واحد من أبرز شهداء الفكر.

ففي المسرحية الخيالية ، تناول أفلاطون الحديث مع صديقه اگزينوفون، حول موقف سقراط من المحاكمة التي تنتظره ، فقال له: “ما أخشاه هو أن يُطَبِقَ على نفسه الدرس الذي استخلصه من محادثته مع الفيلسوف هيبپاس (Hippias).

“عن أي درس وعن أي محادثة تتكلم ؟” رد عليه اگزينوفون.

للإجابة على السؤال ، بدأ أفلاطون يروي القصة التالية ، وهي حقيقية ، لأنني استقيتها من المراجع : “ذات يوم، التقى سقراط ب هيبپاس، ولكي يقْنِعَه بأهمية دور الإرادة والعزيمة في السلوك الإنساني، طرح سقراط عليه مسالة متسابقين متنافسين في الحلبة، لكن كلاهما يجريان ببطء. فالأول لأنه لا يقدر على الجري بسرعة، والثاني سريع، لكن يغش ولا يريد الوصول إلى المقدمة. فسأل سقراط هيبپاس عن المتسابق الأمثل بين هذين النموذجين. فأجابه هيبپاس بأن المتسابق الأفضل هو الذي يملك القدرة على الجري بسرعة، وله الإرادة للقيام بذلك.”

يسأل اگزينوفون أفلاطون عن علاقة هذا النقاش بالمحاكمة؟

فيجيبه الراوي :”أخاف كل الخوف من فَرَضية واحدة: أن يتصرف سقراط أثناء المحاكمة، كالمتسابق الثاني، فيتكاسل عمدا، لكي يترك الآخرين يوجهون له اللكمات، لإثبات إدانته.”

مات سقراط ظلما، وتم استعمار أثينا من طرف الرومان، ولم تبقى إلا أطلال أيام المجد وسواري مائلة، وجدران آيلة للسقوط ، لاستخلاص الدروس .

لو كان الدايمونيون السقراطي حاضرا، لما غزى النازيون أوربا، وأرجعوها حطاما و أغرقوها في انهار من الدم، ملايين من الموتى وملايين أخرى من المعطوبين والمُهَجّرين . لو كان الدايمونيون السقراطي حاضرا لما تجرأت دولة على استعمار دولة أخرى ، لاستنزاف خيراتها ، واستعباد سكانها، لو كان الدايمونيون السقراطي حاضرا لوُضِعَ حَدّ نهائي لمآسي العالم ، وعم الخير بين سكان الأرض،

تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد